إن الله لذو مغفرة وذو عقاب أليم
كثيراً ما يَتَمتْرس المقيمون على معصية ما ، خاصة إذا كانت مُعْلَنةً أو مجاهراً بها... بقولهم :
إنَّ الله غفورٌ رحيم! وهم بذلك يتهاونون فيما يفعلونه، بل ربَّما يُبرِّرونه،
بل رُبَّما يُؤكِّدون عدم توبتهم أو أنَّهم يتمادون في ما هم عليه ! ولو أنصف هؤلاء أنفسهم،
وكانوا صادقين، لذكروا أنَّ الله شديد العقاب أيضاً، إلى جانب أنَّه غفورٌ رحيم ,
قال الله تعالى:
{ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }.
[المـَـائدة: 98]
فإلى متى يبقى الاستخفاف والتبرير شائعين، إتكالاً على «بعض الكتاب» وإغفالاً «للبعض الآخر»؟
فالله سبحانه جعل نتيجة موازية وحصيلة آتية لكل فعل ، فالحلال وراءه حساب ،
والحرام وراءه عقاب ، فهو تعالى يرضى عند الطاعة ، ويغضب عند المعصية ،
وقال جلَّ جلاله :
{ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }
[الأعـرَاف: 167]
, وغضبه لا يمنع رحمة ، ورحمته لا تحجب غضباً , وما عرف الله من قال بغير ذلك ,
و سيقول قائل: لا تُقنِّطوا الناس من رحمة الله،
ونقول له :
وصلنا إلى مرحلة يأمن فيها الكثيرون من غضب الله تعالى فيتجاهر بل يتفاخر بالإصرار،
متناسياً أنَّ غضب الله سبحانه هو عديل رحمته ، فكما لا يجوز تيئيس الناس من رحمة الله ،
كذلك لا يجوز إغراؤهم , ويدخل الأمر في مرحلة الخطربعدم الندم وعدم الإكتراث
وعدم جهاد النفس لترك المعاصي وذلك يعد من الإستخفاف بدين الله وبحكمه
ومن المناسب هنا طرح قضية المغفرة وأسباب العقوبات ودخول الجنة أو النار :-
أولا :- الفرق بين العفو والمغفرة والرحمة :-
إختلف العلماء في التفريق بين العفو والمغفرة والرحمة , وما أرجحه وأميل إليه ,
هو ما قاله الإمام ابن تيمية والرازي , حيث أن من معجزات القرآن الترتيب ,
ومنه الترتيب التاريخي , والترتيب الزمني , والترتيب في المعاني ,
لذا ذكر الله عزوجل في آخرة آية في سورة البقرة :-
{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ
رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا
رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا
رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ
وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا
أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
قول ابن تيمية
من مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية /المجلد السابع
/مقدمة التفسير :
العفو: يتضمن إسقاط حقه و المسامحة به
والمغفرة: متضمنة أن يقي الله عبده شر ذنوبه، وكذلك إقبال الله على عبده،
وكذلك رضاه سبحانه عنه ، بخلاف العفو المجرد،
فإن العافي قد يعفو ولا يقبل على من عفا عنه ولا يرضى عنه، فالعفو ترك محض،
والمغفرة إحسان وفضل وجود
والرحمة: متضمنة للأمرين (العفو والمغفرة) مع زيادة الإحسان والعطف والبر
قول الرازي
بأن العفو أن يسقط عنه العقاب ، والمغفرة أن يستر عليه جرمه صوناً له من عذاب التخجيل والفضيحة ،
كأن العبد يقول: أطلب منك العفو، وإذا عفوت عني فاستره علي،
فإن الخلاص من عذاب القبر إنما يطيب إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة،
والأول هو العذاب الجسماني، والثاني هو العذاب الروحاني. تفسيرالرازي.
.. تبعه على ذلك جماعة من المفسرين كالنيسابوري والخازن وابن عادل.
ثانيا :- من ينال مغفرة الله ورحمته
يقول تعالى:
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء
وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا }
[سورة النساء: آية 48]
يقول الله عزوجل
{ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ }
الأعراف 56
فرحمة الله أقرب إلى من هو سائر على الصراط المستقيم , أما أهل الغفلة والفساد
فالعقاب أقرب إليهم من الرحمة والله أعلم ,
وأما من مات على الشرك بدين غير دين الإسلام , أو من أشرك من المسلمين في التوحيد
كالشرك في توحيد الربوبية كمن إدعى أن هناك من يرزق غير الله بإذنه أو بدون إذنه
أو الألوهية كمن يذبح ويدعو غير الله من الأولياء الأحياء
أو الأموات كما يحدث عند زيارة القبور ,
وكمن يقول
مدد يا سيدنا البدوي أو الحسين وغيره , أوالشرك في أسماء الله وصفاته بجحد
أو إنكار كمن يقول إن الله موجود في كل مكان , أو الشرك في توحيد الحاكمية
كمن يقول
أن شريعة الله غير ملزمة بالحكم بها أو أنها رجعية ولا تصلح , أو بفصلها عن السياسة وغيرها ,
فإن الله لن يغفر له
بنص القرآن الكريم , ومن تاب تاب الله عليه
يقول الله تعالى :
{ إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا }
الفرقان/71
ثالثا:- الفرق بين العقوبة والتكفير :-
إن أدى البلاء إلى توبة العبد والرجوع إلى الله فهو تكفير للعبد وخير
وأما إن أستمر العبد على ماهو عليه من غفلة أو زاد فهو عقوبة ,
وإن كان العبد سائرعلى الصراط فهو إما إمتحان له وتمحيص
أو رفع للدرجات أو إقترف معصية يجب التوبة منها , فالأمر يتعلق بحال العبد على ماهو قبل وبعد
رابعا :- من أسباب العقوبات والمصائب
يقول الله عزوجل :-
{ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ
وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }
{ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَة فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِير }
{ فَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّة خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّة شَرًّا يَرَهُ }
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - :
ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها النبي - صلى الله عليه وسلم
{ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَة فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } الآية :
( يا علي ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم .
والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا عنه في الدنيا
فالله أحلم من أن يعاقب به بعد عفوه )
خامسا :- كيفية دفع العقاب
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية
" عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب :
أحدها : التوبة ، وهذا متفق عليه بين المسلمين .
قال تعالى :
{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }
وقال تعالى :
{ ألَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }
وقال تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ }
وأمثال ذلك .
السبب الثاني : الاستغفار
كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( إذا أذنب عبدٌ ذنباً فقال أي رب أذنبت ذنباً فاغفر لي ،
فقال : علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به ، قد غفرت لعبدي .. الحديث )
. رواه البخاري (6953) ومسلم (4953) .
وفي صحيح مسلم
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يذنبون ثم يستغفرون فيُغفَرُ لهم )
السبب الثالث :الحسنات الماحية ،
كما قال تعالى :
{ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } ،
وقال صلى الله عليه وسلم :
( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة
ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر )
رواه مسلم (344)
وقال :
( من صام رمضان إيماناً واحتساباً ، غُفِرَله ما تقدم من ذنبه )
رواه البخاري (37) ومسلم (1268) ،
وقال :
( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفِرَله ما تقدم من ذنبه )
رواه البخاري (1768) ،
وقال :
( من حجَّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه )
رواه البخاري (1690) ،
وقال :
( فتنة الرجل في أهله وماله وولده
تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )
رواه البخاري (494) ومسلم (5150) ،
وقال :
( من أعتق رقبةً مؤمنةً أعتق الله بكل عضوٍ منها عضواً منه من النار ، حتى فرجه بفرجه )
رواه مسلم (2777) .
وهذه الأحاديث وأمثالها في الصحاح ،
وقال :
( الصدقةُ تُطْفِئُ الخطيئة كما يُطْفِئُ الماءُ النارَ، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النارُ الحطبَ . )
والسبب الرابع الدافع للعقاب :
دعاءُ المؤمنين للمؤمن ، مثل صلاتهم على جنازته ،
فعن عائشة ، وأنس بن مالك
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( ما من ميت يصلى عليه أمةٌ من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون إلا شُفِعُوا فيه )
رواه مسلم (1576) ،
وعن ابن عباس قال :
" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( ما من رجلٍ مسلمٍ يموت ،
فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً ، إلا شفعهم الله فيه )
رواه مسلم (1577) . وهذا دعاء له بعد الموت .
السبب الخامس : ما يعمل للميت من أعمال البر ، كالصدقةِ ونحوها ،
فإن هذا ينتفع به بنصوص السنة الصحيحة الصريحة ، واتفاق الأئمة ، وكذلك العتق والحج ،
بل قد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال :
( من مات وعليه صيام صام عنه وليه . )
رواه البخاري (5210) ومسلم (4670)
السبب السادس : شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة ،
كما قد تواترت عنه أحاديث الشفاعة ،
مثل قوله في الحديث الصحيح : " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي "
صححه الألباني في صحيح أبي داوود (3965) ،
وقوله صلى الله عليه وسلم :
(خيرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة ، فاخترت الشفاعة ... )
انظر صحيح الجامع (3335) .
السبب السابع : المصائب التي يُكَفِرُ الله بها الخطايا في الدنيا ،
كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم ،
أنه قال :
( ما يُصيب المؤمن من وصبٍ ولا نصب ولا همٍ ولا حزن ولا غم
ولا أذى حتى الشوكة يشاكها ، إلا كفر الله بها من خطاياه )
رواه البخاري (5210) ومسلم (4670) .
السبب الثامن : ما يحصل في القبر من الفتنة ، والضغطة ، والروعة
( أي التخويف ) ، فإن هذا مما يُكَفَرُ به الخطايا .
السبب التاسع : أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها .
السبب العاشر : رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد ."
المرجع مجموع فتاوى ابن تيمية ج7 ص " 487- 501 " .
سادسا :- ترتيب مراحل تطهير المسلم كما ذكرها العلامة ابن القيم
التمحيص هو تخليص العبد المؤمن من خبث ما اقترف من الذنوب والآثام , كتخليص الذهب والفضة
مما يلق بهما من الشوائب ,إذ لا يدخل العبد الجنة إلابعد تطهير نفسه مما علق بها من الذنوب
فالجنة طيبة لا يدخلها الا الطيبون ,
على أن تطهير نفس المسلم من الذنوب يكون على اربعة مراحل .
اولها : التطهر من الذنوب والتخلص منها في الدنيا وذلك باربعة اشياء :التوبة والاستغفار
وعمل الحسنات الماحية
يقول تعالى
{ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ }
والمصائب والابتلاءات التي تنزل بالعبد فتكفر ذنوبه
فان طهرته هذه الاربعة كان من الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يبشرونهم بالجنة
يقول الله تعالى
{ ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة الا تخافوا ولا تخزنوا
وابشروا بالجنة التى كنتم توعدون }
ثانيها : اما اذا لم تخلصه هذه الاربعة من ذنوبه كان لم تكن التوبة نصوحا او لم يكن الاستغفار
المتلبس بالمعاصي او لم تكن الحسنات الماحية فى كمية او كيفية ما اقترف من الذنوب
او لم تكن الابتلاءات