أب يهذب إبنه
ويحكى له قصص رواها الحبيب صلى الله عليه وسلم
قال الأب : سمعتك يا بني أمسِ تقول لوالدتك :
أنا خير من سعيد ، حفظ الآيات المطلوب حفظها في ثلاثة أيام ،
وحفظتها في يوم واحد ، فأنا أكثر ذكاءٍ منه .
- قال الولد : نعم يا أبي ، لقد قلت هذا .. فهل تراني أخطات ، ولم أتعدّ الحقيقة ؟
-قال الأب : وقلتَ مرة : إن والدك مدرّس قدير ، ينظر الناس إليه باحترام وتقدير ،
أما خالد فوالده عامل في متجر جدك ... أليس كذلك ؟.
- قال الولد : بلى ، لا أنكر ذلك ..فهل من مأخذ عليّ ؟.
- قال الأب : إن قلتَ هذا من قبيل الفخر بنفسك ،
والتعالي على الآخرين قاصداً الحطّ من الناس والترفـّع عليهم فقد أقحمتَ نفسَك في النار
– لا سمح الله - دون أن تدري ، فإنّ أحدنا يتلفّظ بالكلمة
لا يلقي لها بالاً تقذفه في جهنّم سبعين خريفاً .
- قال الولد : أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ، وأستغفر الله أن أقول ما يغضبه .
- قال الأب : إنّ الإعجاب بالنفس والأهل وكثرة المال وجمال الثياب وبهاء المظهر ،
والتفاخر بكثرة العبادة يهلك الإنسان .. والعُجْب يا بنيّ محبط للأعمال ،
مبعد عن الجنّة ونعيمها ،
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :
( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبْر ... )
ووضح معنى الكبر فقال : " الكبْر بطر الحق ، وغمط الناس " والغمط الاحتقار والازدراء .
وقال عليه الصلاة والسلام
( ألا أخبركم بأهل النار ؟ كل عُتـُلٍ جوّاظ مستكبر )
(والعتل : الفظ الغليظ ، والجواظ : الجَموعُ المنوعُ : وقيل المختال في مشيته .)
وكان الأولى بك - يا بنيّ – أن تحمد الله أنْ يسّر لك حفظ الآيات القرآنية ، وأن تشكره بالتواضع ...
فإن كان أبوك في نظرك ونظر الناس خيراً من غيره فقد يكون في ميزان الله
– نسأل الله العافية – أقلَّ بكثير ممن رأيته خيراً منهم ..
وقد مدح قومٌ الصدّيقَ رضي الله عنه فقال قولتَه المشهورة :
[ اللهم اجعلني خيراً مما يظنون ، واغفر لي ما لا يعلمون ] .
- قال الولد : جزاك الله خيراً يا والدي ومعلّمي ، والله ما كان يخطر ببالي
أنني أُغضب الحقّ تبارك وتعالى ، وأعاهدك أنْ لا أعود إلى ذلك أبداً .
- قال الأب : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصّ على الصحابة الكرام
عاقبةَ مَن يُعجب بنفسه ، فيوردها موارد الهلاك ... وسأذكر لك ثلاثاً منها ،
عساها تكون إشاراتٍ حمراء تمنع صاحبها أن يقع في شرّ ما يفكر به ويعمله .
أما القصة الأولى :
فقصة رجل رأى نفسه فوق الآخرين مالاً وجمالاً وحلّةً ... مشى بين أقرانه مختالاً بثوبه النفيس ،
وشبابه الدافق حيويّة ، وجيبه المليء المنتفخ مالاً ، تفوح نرجسيّتُه وحبُّ ذاته في الطريقة
التي يمشيها ، فهو يمدّ صدره للأمام ، ويفتح ما بين إبطيه ، لا يكاد الطريق يسعُه ،
يميل بوجهه إلى اليمين مرّة ، وإلى اليسار أُخرى متعجّباً من جِدّة ثوبه ، وغلاء ثمنه ،
يجر رداءَه خيَلاءَ ، يظن نفسه خيرَ مَن وطِئ الثرى ، يكادُ لا يلمس الأرض من خفّته ،
يحسب أن العَظَمة إنما تكون بالمادّة والمظهر ،
ونسي أنها لا تكون إلا بحسن الأخلاق ونفاسة المخبَر ،
وغفَل عن قوله تعالى :
{ ولا تمْشِ في الأرض مَرَحاً ، إنك لن تخرِق الأرضَ ولن تبلُغ الجبالَ طولاً }
وتناسى أنه مخلوق ضعيف ، أصلُه من طين ، ومن سُلالة من ماء مَهين .
تناسى أنّ أوّله نطفة مَذِرَةٌ ، وآخرَه جيفةٌ قذرةٌ ، وهو بينهما يحمل العَذَرةَ ...
وتناسى أنّه حين صعّر خدّه للناس غضب الله عليه ، لأنه شارك الله في صفتين لا يرضاهما لغيره ،
حين قال تعالى في الحديث القدسي
( العَظَمةُ إزاري ، والكبرياءُ ردائي ، فمن نازعني فيهما قصمت ظهره ولا أُبالي )
بل تناسى كذلك أنه سيصير إلى قبره ، حيث يأكله الدود في دار الوَحشة والطُّلمة ،
لا أنيس فيها سوى التقوى والتواضع . وغفَل أيضاً عن مصير الجبّارين المتغطرسين قبله .
وقصّة قارون الذي خسف الله تعالى به الأرض قرآن يُتلى .
وقد أخبرنا الرسول الكريم أن هذا الرجل المتكبر خسف الله به الأرض ، فهو يغوصُ في مجاهلها
من شِقٍّ إلى شقّ ، ومن مَهوىً ضيّق غلى حفرة أعمقَ منها ، ينزل فيها مضطرباً مندفعاً ،
تصدُر عن حركته أصواتٌ متتابعةٌ إلى يوم القيامة جزاءَ تعاظمه وتكبّره ...
ثم قال الرسول عليه الصلاة والسلام
( إنّ الله أوحى إليّ أنْ تَواضعوا ، حتى لا يبغيَ أحدٌ على أحدٍ ، ولا يفخرَ أحدٌ على أحدٍ .)
مصدر الحديث : في صحيح البخاريمجلد 4 جـ 7
باب من جر ثوبه خيلاء
وأما القصة الثانية :
فقد ذكر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن رجلين من بني إسرائيل كانا متآخيين
إلا أنهما يختلفان في العبادة ، فالأول مجتهد فيها ، يصلُ قيام الليل بصيام النهار ،
لا يألو في الاستزادة منها .. يرى صاحبه مقصّراً ، بل مذنباً مصرّاً على المعاصي ،
فيأمره بالعبادة ، وينهاه عن المعصية ، ولربّما وجده يوماً يشرب الخمر أو يرتكب معصية ،
فنهاه عنها ، وهذا أمر يتصف به المسلم ، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ،
وهكذا الدعاة دائماً
{ كنتم خير أمة أُخرجتْ للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ... }
{ ولْتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ، ويامرون بالمعروف ، وينهَوْنَ عن المنكر }
إلا أن الإنسان حين يتجاوز حدّه ويتألّى على الله فقد أساء إلى الذات الإلهيّة ،
ووقع في غضب الله دون أن يدري ، فكانت عاقبته خسراً .
إن العاصي حين أمره العابد أن يفعل الخير ، ونهاه عن المنكر قال له :
" خَلّني وربي .. أبُعِثْتَ عليّ رقيباً ؟! " ...
هنا نلحظ أمرين اثنين :
1- فقد كان المذنب مصراً على الذنب ، عاكفاً عليه ، متبرّماً من متابعة العابد له بالنصح والمتابعة .
2- وكان أسلوب العابد في النصح فظاً غليظاً أدّى إلى تحدّي العاصي له . والداعية الناجحُ هيّن ليّن ،
رفيق بالمذنبين ، يعاملهم معاملة الطبيب الحاني مرضاه ، فيمسح عنهم تعبهم ،
ويخفف عنهم آلامهم ، فيدخل إلى قلوبهم ، وينتزع منهم أوصابهم .....
( احتدّ العابد من إصرار العاصي على ذنبه ، فاندفع يُقسم :
أنّ الله لن يغفر له ، ولن يرحمه ، ولن يُدخله الجنّةَ .... فيقبض الله روحيهما ،
فاجتمعا عند رب العالمين ، ،، ويا خسارة من يغضب الله عليه ،
إن العابد نزع عن الله صفة الرحمة ، وصفة الغفران ، حين أقسم أن الله لن يغفر للعاصي ...
قال الله لهذا المجتهد :
أكنتَ بي عالماً ؟ أو كنت على ما في يدي قادراً ؟ لأُخيّبَنّ ظنّك ، فأنا أفعل ما أشاء ...
وقال للمذنب اذهب فادخل الجنّة برحمتي ... إن الناس جميعاً ، صالحَهم وطالحَهم ،
عابدهم وعاصيهم ، لن يوفـّوا الله نعمه ، وحين يدخلون الجنّة يدخلونها برحمته . .. )
قالها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ،
فقالوا له : حتى أنت يا رسول الله ؟
قال صلى الله عليه وسلم:
( حتى أنا إلاّ أن يتغمدَنيَ اللهُ برحمته )
وقال الله تعالى للآخر(للعابد) المتألّي على الله :
اذهبوا به إلى النار ... لقد لفظ كلمة أهلكته فدخل النار ولم تنفعه عبادته .
المصدر : رياض الصالحين
باب تحقير المسلمين الحديث/ 1210 /
وأما القصة الثالثة :
فهي رديف المعنى في القصة الثانية ،
إذ افتخر رجل أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل ،
فقال : أنا ابن فلان ، فمن أنت؟ لا أمّ لك . فردّه المعلّم الأول صلى الله عليه وسلّم إلى الصواب
بطريقة غير مباشرة ،
إذ روى الحبيب المصطفى قصة مشابهة لقصتهما حدثت أما النبي موسى عليه السلام بين رجلين .
فقد فَخَر الرجل الأول بآبائه فقال : أنا ابن فلان بن فلان .. حتى عدّ تسعة آباء ،
لهم بين يدَيِ الناس في حياتهم المكانةُ الساميةُ غنىً ونسباً ومكانةً ..
فمن أنت حتى تطاولني وتكون لي نَدّاً ؟! .
لو انتبه إلى مصير أبائه وأجداده لم يفخر بهم ، إنهم كانوا كفـّاراً يعبدون الأصنام ويتخذونها آلهة.
والله تعالى يقول لأمثال هؤلاء:
{ إنكم وما تعبدون من دون الله حصَبُ جهنّم ، أنتم لها واردون } ..
لم يدخل الإيمان قلبَه فدعا بدعوى الجاهلية ، وفضّل أهلَ النار – ولو كانوا أجدادَه –
على أخيه المسلم ، فكان مصيرُه مصيرَهم إذ أوحى الله إلى نبيّه موسى أن يقول له :
أما أنت أيها المنتسب إلى تسعة في النار فأنت عاشرهم ،لأن المرء يُحشر مع من أحبّ .
وقال الثاني : أنا فلان بن فلان بن الإسلام .. فخر بأبيه الذي رباه على الإسلام ،
وقطع نسبه قبل أبيه ، فلم يفخر بجده الكافر ، ولم يعترف به ، فلا جامع يجمعه به .
أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواه *** إذا افتخروا بقيس أو تميم
هل يلتقي الكفر بالإيمان والظلام بالضياء في قلب واحد؟! شتّان شتّان ، فلن يعلوَ الإنسانُ بنسبه ،
ويوم القيامة لا ينفعه سوى عمله
{ فإذا نُفخ في الصور فلا أنسابَ بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون }
وقال تعالى كذلك
{ إن أكرمكم عند الله أتقاكم }
وهل ينفع نوحٌ ابنَه ؟ وإبراهيمُ أباهُ ، ورسولُ الله عمَّه أبا لهب ؟ ..
فأوحى الله إلى نبيّه موسى أن يهنئه بالفوز والنجاح حين قال :
أما أنت أيها المنتسب إلى والدك المسلم ودينك العظيم فأنت من أهل الجنّة .
تعصّبتَ إلى دينك ، وتشرفتَ بالانتساب إليه فأنت منه ، وهو منك .
المصدر : مسند الإمام أحمد جزء 5 ص